تلتمس المسلمة في سيرها إلى الله أولى الخطوات الثابتة من الخصال العشر وهي الصحبة والجماعة بما تحمله هذه الخصلة من معان وسمات وانتقال من زمن الفتنة والعادة والتقليد إلى عهد جديد مع الله القوي المجيد. وإن هذه الخصلة لتقوم على ثنائية متكاملة، بين طرفيها تلازم وارتباط يحدد للسالكة والسالك معلما مهما في بناء الفرد والجماعة: إنه الصحبة والجماعة. ولعل الشرط الأول في نجاح التربية "وجود صحبة وجماعة تتلقى الوارد عليها في رحاب المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة. الوجه الباش، والكلمة المبشرة المشجعة، أول ما ينبغي أن يدركه الوارد من وجود مرحمة ومحبة في الأسرة التربوية حتى يحب صحبتها والسير معها" .[1]
1 - الصحبة
لعل من فضل الله على المسلمين أن اختار لهم رسولا هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله، وسراجا منيرا، هو محمد بن عبد الله جمع حوله أصحابه، وألف بإذن الله بينهم بالرفق والرحمة واللين وحسن الخلق، فتسموا الصحابة والواحد منهم صاحب، والرسول صلى الله عليه وسلم المصحوب.
ومن أساسيات المصحوب أنه القدوة والمثال الذي يقتدى به في كل الأمور التي تتجلى آثارها طيبة على النفوس والقلوب والمعاملات والقيم. فجاءت الصحبة الأولى نموذجا حيا نابضا بالخير والبركة والتوافق الفريد.
وقد أثر الرسول في الصحابة قولا بما يقوله ويخطب في الناس به، وفعلا بما يفعله ويقوم به، وتقريرا بما يوافق عليه أو يسكت عنه إجازة وقبولا. وورث المربون على مر العهود والأزمنة هذه الخصلة فأشاروا إلى تلامذتهم وألحوا وووجهوا وبنوا قواعد للسلوك كان منها الشديد العسير، وكان منها الواسع الخفيف، حسب المصحوب ودرجة معرفته بالأحوال والظروف والأوضاع. "وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن " "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالِل" ، كما روى ذلك أبو داود والترمذي عن أبي هريرة. وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن أصحابه أمنَة لأمته كما روى ذلك مسلم عن أبي موسى الأشعري. وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النار لا تمَس من رآه أو رأى من رآه كما روى الترمذي عن جابر.[2]
وتحتاج المسلمة إن هي أرادت الخروج من المآزق والقيود التي كبلتها بها عصور العض والجبر، إلى صحبة حانية رفيقة ومسؤولة تدلها على الله، متسائلة بصدق من أصحب يا رب؟ لأن الصحبة الصالحة الجامعة لكل مقومات التربية والتوجيه أدرى بمخاوف الطريق ومعيقات السير، وعقبات السلوك إلى الله سبحانه وتعالى. وكان هذا ديدن الرجال من السالكين، ودأب الصادقات من السالكات. وذلك لتكون بدايتها صحيحة: "وسبحان الله كيف أخذ المحدثون الحنابلة عن الإمام عبد القادر كل شيء إلا مسألة الصحبة التي لا يكادون يعيرونها اهتماما، ففاتهم الاستفتاح بالصحبة الشخصية، وفاتهم بفواتها البداية الصحيحة" .[3]
وانطلاقا من الحديث الشريف: "ثلاث مَن كن فيه وجَد بهن طَعْم الإيمان: من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر -بعد أن أنقذه الله منه- كما يكره أن يلقى في النار" .[4] يعتبر الإمام المجدد رحمه الله أنها "ثلاث خصال وجدانيات قلبيات، يتوسطهن حب عبد لعبد أو أمة لأمة لا تحبها إلا لله. هذه هي الصحبة المفتاح" . [5]
وتنحني في صحبتها للأخيار الصادقين والخيرات الصادقات في صحبة أفقية مطمئنة راضية مقتحمة متوجهة بقلبها إلى الله تعالى.و كيف لا يتأتى لها الارتقاء في مراتب الإسلام والإيمان والإحسان، وهي قد وضعت أمرها بيد الله في استخارة واستشارة واستنارة واستبصار، طلبا للصلاح وعزما على الفلاح وانتظارا لموعود الله في تطبيق العدل في الأرض، وتحقيق العبودية لله في العالمين.
2- الجماعة
لا تثمر الصحبة في ظل الظروف التي تعيشها الأمة اليوم وحدها، فلا بد من ضابط أساس يجمع القلوب ويوحد المشاعر، ويلم الصفوف، ويعبر بالفرد والأمة إلى بر الأمان وظلال الاستقرار، ورحابة العطاء، وساحة البناء، فكانت الجماعة باعتبار فقه الواقع الشق الثاني الضروري للبناء تربية وتنظيما وجهادا، واستشرافا لحياة طيبة أساسها التضحية والعمل الدؤوب وهدفها العمران الأخوي، وغايتها الغالية عبادة الله في الأرض مناط التكليف والمسؤولية والرسالة المحمدية. "إن رجوع الإنسان على نفسه يشد خناقها ويحاسبها ويردها عن غيها وماضي غفلتها وعصيانها لهو معركة قَلّ مَن يقودها إلى نهاياتها منفردا. فإذا وجدت التائبة وسط الجماعة الحية من المومنات مَا يَريشُ جناحها ويشد أزرها من الصحبة الوَدودِ، والتوجيه الرفيق، والملازمة والرعاية، دخل جهادها نفْسَها في سياق يدفعها إلى الأمام ويُخفف عنها الآلام" .[6]
وتقوم الجماعة على التلاحم بين أعضائها روحا وجسدا، صفا مرصوصا بناؤه، ولهذا فالتنظيم والانضباط له أمر هام في السعي والسلوك والسير إلى الله، فزمن الانزواء والعزلة وتفضيل السلامة الفردية والخوف من الانغماس في الدنيا درءا لمفسدة الفتن قد ولى، لأن الواقع الذي نعيشه يفرض الاقتحام ومواجهة كل العقبات، والانخراط الكلي في العطاء المتواصل، صعدا لنيل رضى الله تعالى.
والمسلمة حصن متين من حصون المجتمع، يقع على عاتقها الانتظام في الجماعة المجاهدة، وعيا منها بأهمية التنظيم وضرورته الشرعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية. وإنه لتحد هي قادرة عليه بما حباها الله من رفق جانب ورقة طبع ولطف معشر، وهي لعمري في ذلك أقوى من الرجل وأشد. "ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض" .[7]
الجماعة جسد واحد وكيان عامر، واجتماع راشد يؤسس للمشروع الخالد النافع للناس، المستشرف للنماء والمستعد للبذل والعطاء، ويبني المجتمع السعيد: مجتمع العمران الأخوي.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا، ولا تومنوا حتى تحابوا. أوَلاَ أدلكم على شيء إن فعلتموه تحابَبْتم؟ أفشوا السلام بينكم" . ويرى الإمام المجدد رحمه الله أن "إفشاء السلام سبب ظاهر إذا اقترن بالأسباب الأخرى فاجتمعت القلوب على طاعة الله، والوفاء بالعهود، والتحزب لله، ونصرة دين الله، واتباع سنة رسول الله حصل المقصود، فتراص الصف كالبنيان، واستقرت أعضاء الجسد الواحد، وتضامنت وتعاونت. فثبت خير الدنيا بحياة الإيمان الجماعي وثبت خير الآخرة بإيمان التحاب في الله. وهنا نضع الأصبع على مفصل، بل موصل، من أهم مواصل بناء الجماعة، بل هو أهمها إطلاقا: ألا وهو التواصل القلبي. الصحبة في الله المؤدية إلى جماعة في الله هي مبدأ الحركة ووسطها ومعادُها. وكل ذلك رزق يُلقيه الله عز وجل على المرحومين، له علائم ظاهرة، وأسباب مشروعة، وحكمة ورحمة يضعها الله في قلوب العباد" .
فالجماعة تصور ومدرسة تتربى فيها النفوس والقلوب وتتقوم السلوكات والعادات والطباع. وتحترم منطق القوة الذي يجليه تضافر الجهود وتراص الصفوف وانتظام الأهداف والغايات والهمم. لذلك كان التنظيم في الجماعة يقوم على أسس ونواظم متينة هي: الحب في الله، والشورى والنصيحة، والطاعة.
ومن كتاب مقدمات في المنهاج نقف على ما أجمله الإمام رحمه الله من شعب هذه الخصلة: الصحبة والجماعة : هنا بروز العبد إلى الدنيا في حضن والديه، ثم رعاية وجوده الجسمي وكيانه المادي في الأسرة والمجتمع إلى أن ينضج وعيه بوجوده، ووعيه بانتمائه لأمة ذات رسالة، وتعلقه القلبي بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ثم انخراطه في محضن إيماني، محضن الجماعة المجاهدة. وهكذا يتخذ وجهته ليتكون في مدرسة الجهاد.
شعب الخصلة : (1) محبة اللّه ورسوله (2) التحاب في اللّه عز وجل (3) صحبة المؤمنين وإكرامهم (4) التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه (5) التأسي به صلى الله عليه وسلم في بيته (6) الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق (7) الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه (8) قوامة الرجل وحافظية المرأة (9) إكرام الجار والضيف (10) رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس (11) البر وحسن الخلق.[8]
[1] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 54.
[2] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات1/292.
[3] ياسين عبد السلام،الإحسان 2/ 414.
[4] حديث متفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] ياسين عبد السلام،تنوير المومنات 1/ 385.
[6] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات 1/ 322.
[7] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 55.
[8] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 77-78.
تاريخ النشر : الجمعة 6 ماي/أيار 2016