المرأة المسلمة والخصال العشر «الخصلة الثانية: الذكر»

بقلم: الحسن السلاسي
../imagesDB/5979_large.png

تجلس المسلمة إلى أخواتها في مجالس الذكر والإيمان، للذكر - وكل مجالس المسلمين خير وهدى - فتجتمع بهن في تنافس على منابر الفضل والرشد والنور أخذا وعطاء. وهي متيقنة أنها لحظات تتباهى بها الملائكة وتغشاها الرحمة وتتنزل عليها السكينة ويذكرها الله في من عنده.

وفضل الله يتنزل بين العباد على قدر صفاء الأوعية المتشوفة للنيل منه، وإن الذكر بمعناه القرآني النبوي ليروي الإناء ويملأه بالنور المتجلي من الله تعالى لعباده الصالحين. ويفيض بعد ذلك نفعا للآخرين من الناس فلا يكون الذكر وهو الخصلة الثانية الطيبة الكريمة مقصورا على المسلمة بل يتعداها إلى ما سواها من إنسان وحيوان وجماد وبيئة ومحيط وكون.

فالنور الهادي المنتقل من الذاكر إلى الآخرين، يعم الحاضر والغائب، الذاكر والغافل، إن كان له صلة بالمسلمة التواقة إلى أن ينتشر الخير منطلقا منها، ويشمل الذكر كل بقاع الأرض، بما يملأ قلب المسلمة من رفق ورحمة وحب للخير، وإنه منها سعي واقتحام.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تَنَادَوْا: هلُموا إلى حاجتكم! فيَحُفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم-: ما يقول عبادي؟ قال: فيقولون: يسبِّحونك ويكبِّرونَك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك! قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رَأوك كانوا أشدّ لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. قال: فيقول: فما يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها! قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصا، وأشدَّ لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فَمِمَّ يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار. قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها! قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدّ منها فِرارا، وأشدَّ منها مَخافةً. قال: فيقول: أُشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فُلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسُهم" .[1]

ومن هنا يظهر لنا أن للذكر أفضالا كثيرة لا مجال لعدها، ولعل أجلها وأكرمها أنه استحضار لعظمة الله تعالى ولجماله وجلاله، ولألوهيته ولربوبيته، ولنعمائه ولآلائه على خلقه. تبارك الله وتعالى ما أعظمه نعم المذكور.

1- الذكر صلة ووصل

بين يدي الله تعالى وفي سياق الصحبة والجماعة، تتصل المسلمة بالله تعالى اتصال عبودية وتقرب وطاعة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [2] فتغدو دائمة الذكر لله في كل أحوالها وأوقاتها وحركاتها وسكناتها. تحتمل لذلك كل الصعاب وتتجاوز كل العقبات، بانتظامها الإيماني في سلك المومنات الذاكرات.

ويمكنها هذا الوصل بالله أن تبلغ عن رسول الله معاني الذكر والقرب والعبادة والهجرة إلى الله والإيواء إليه. وأن تغشى النوادي والمنتديات والمؤسسات والمحافل، بقلب غير حافل بما يعترض من معاول. فتدعو غيرها إلى الإقبال على الله والفوز برضاه والعمل على لمّ الصفوف وجمع شمل الأمة على الهدى والرشاد والصلاح. وإنه لنعم الجهاد.

2- الذكر العام والذكر الخاص

للذكر معان كثيرة حددتها المعاجم اللغوية وتدور كلها حول معنى الاستحضار والتذكر والحفظ والاسترجاع... لكن المعنى القرآني للذكر يشمل دلالات منها الصلاة، لقول الله تعالى: وأقم الصلاة لذكري [3] والقرآن كما في قوله سبحانه: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [4] والذكر باللسان: في قوله تعالى: إذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [5]، ومنه الكلمة الطيبة. والذكر بمعنى: العبرة والعظة، من ذلك قوله سبحانه: فلما نسوا ما ذكروا به [6] ، أي: ما وُعِظوا به. ومنه قوله تعالى: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [7]

ومنه: التذكر من ذلك قوله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [8] وبمعنى الحفظ، كقوله تعالى: خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه [9]

وقد ميز بعض العلماء بين الذكر العام والذكر الخاص إجمالا، فالذكر العام يرتبط بذكر الله واستحضاره في كل حركة وقول وفعل وسلوك ورد فعل. في كل الأحوال والظروف، ومنها الذكر في مواقع الجهاد وهو أعلاها وأفضلها.

والذكر الخاص وهو المقيد بأقوال مسنونة موقوتة يرددها المسلم ويحافظ عليها طلبا لما عند الله من خير وفضل. وهذا له ضوابطه وقد قالوا لكل وقت عمله وذكره. وهذا النوع هو الذي يصل بالمسلم إلى النوع الأول فلا يتأتى له إخضاع نفسه وإلزامها وتعويدها على الذكر المطلق العام، ما لم يربها على الذكر المقيد الخاص، ولا يتأتى له هذا ولا ذاك ما لم ينتظم في محاضن إيمانية تفتح له بفضل الصحبة والجماعة أبواب القرب من الله تعالى. وهاذ مطلب كل عاقل.

وقد حذر الإمام المجدد - رحمه الله - المسلمة من الغفلة ودعاها للذكر في قوله: "والغافلة عن ربها ذهب ما كان معها من باقيات الفطرة أدراج الرياح. عاشت زمنا في مُناخ بارد الإيمان، مكسوف الأنوار. فلا ترجى لها حياة إلا بصحبة المومنات، زمِنة عمياء إن لم تصِل حبلها بحبل المبصرات بنور الإيمان، التاليات الذاكرات" [10]

ويستدل – رحمه الله - من السنة على وجوب لزوم الذكر الكثير: "ضرب لنا مثلا صلى الله عليه وسلم بفعله هو لنستبق إلى اللحاق بالموكب النوراني. كان صلى الله عليه وسلم يوما مسافرا مع أصحابه في طريق مكة -لجهاد أو حج لا لسياحة ممتعة- فمروا على جبل يقال له جُمدان فقال: "سيروا، هذا جُمدان. سبق المفَرِّدُون، قالوا: ومَا المفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات". رواه مسلم عن أبي هريرة. والحديث عند الترمذي. قالوا: "وما المفردون يا رسول الله؟ قال: المستهترون بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خِفافا"" [11]

3- آثار الذكر في حياة المسلمة

للذكر عظيم الأثر على المسلمة، فهو بفضل الله ينقلها من زمن العادة والفتنة والغفلة إلى عهد الاستقامة والحضور والمراقبة. ويظهر أثر الذكر في حياة المسلمة في سلوكها وأقوالها وأفعالها، في حركاتها ومشيتها وفي إقبالها وإدبارها، أي في جميع أحوالها. نورا ساطعا تمشي بين الناس في هيبة غير منفرة ووقار غير مرعب، صدا لطمع مريض ولتطاول وقح. ولهذا علاقة بخصلة طيبة كريمة أخرى هي خصلة السمت الحسن كما سيأتي لاحقا إن شاء الله.

وقد بين لنا الإمام - رحمه الله - في أقواله ذاك الكنز المكنون أثر الذكر بقوله: "هذه المجَالس التي يتَنادى إليها المومنون في بيوت الله، ويلتم فيها شمل المومنات في مساجدهن في بيوتهن، هي منازل رحمة الله، ومثال جنة الله وملتقى ملائكة الله. روى مسلم عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. قال: "آللّهِ ما أجلسكم إلا ذاك؟" قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: "أما إني لم أستحلفكم تُهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة"." "اختارتْ مختارة ما هو أنسب لها: مجالس تغشاها الملائكة يذكر فيها الله ويحمد فيها على آلائه وهدايته للإسلام، أو مجالس لهو وعبث وفحش تحضرها الشياطين، وترقص فيها الشيطانات!" [12]

وإن الذكر في المنهاج النبوي هو الشرط الثاني من شروط التربية الإيمانية الإحسانية وهي: الصحبة والجماعة والذكر والصدق، يقول الإمام المجدد - رحمه الله - : "الشرط الثاني: الذكر: يقول سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل" والدقل رديء التمر. أخرجه الحاكم وصححه. واختصرناه." "رأينا أن الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله، فعندما تكون الصحبة صالحة، رجلا صالحا وجماعة صالحة، ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية حتى يخرجوا عن الغفلة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض. فتلك هي الطاقة الإيمانية، الجذوة الأولى التي تحرك القلوب والعقول لتلقي القرآن بنية التنفيذ كما كان يقول سيد قطب رحمه الله." "النبع لا إله إلا الله، والفيض نورها، حتى يستطيع المؤمن وجماعة المؤمنين تلقي شمس القرآن، ومدد القرآن، وبركة القرآن، وحتى يستطيعوا العمل بمقتضى القرآن " [13]

وتندرج ضمن خصلة الذكر جملة من شعب الإيمان يقول الإمام - رحمه الله -: "وفي حضن الصحبة الصالحة يبدأ توجه المسلم إلى ربه عز وجل. فتجمع خصلة الذكر أنواع العبادات المشروعة التي توقظ روحانية العبد، ويعم عبيرها الجو الذي يتنفسه جند اللّه ليصلح المحل، وهو القلب والعقل، للتخلق بأخلاق الجندية، وللسلوك سلوكا جهاديا. شعب الخصلة : 12 قول لا إله إلا الله.13 الصلاة المفروضة.14 النوافل.15 تلاوة القرآن. 16 الذكر وأثره. 17 مجالس الإيمان.18 التأسي بأذكار النبي صلى الله عليه وسلم. 19 الدعاء بآدابه.20 التأسي بدعواته صلى الله عليه وسلم.21 الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.22 التوبة والاستغفار. 23 الخوف والرجاء.24 ذكر الموت" .

[1] رواه البخاري عن أبي هريرة. وروى مسلم الحديث بلفظ قريب منه.

[2] سورة الأحزاب : 41 – 42.

[3] سورة طه: 14.

[4] سورة الحجر: 9.

[5] سورة النساء:103.

[6] سورة الأنعام: 44.

[7] سورة الذاريات:55.

[8] سورة آل عمران:135.

[9] سورة البقرة:63.

[10] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات،1/ 366.

[11] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات،1/ 368.

[12] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات،1/ 369.

[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 55.

[14] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 78.

تاريخ النشر : الأربعاء 11 ماي/أيار 2016