المسلمة والخصال العشر: «الخصلة الثالثة: الصدق»

بقلم: الحسن السلاسي
../imagesDB/5987_large.png

الاستعداد القلبي والنفسي والوجداني والسلوكي للمسلمة يبين مدى حسن نيتها ورغبتها في التغيير، ويحدد بعد ذلك درجة استفادتها من التربية وتلقيها أسسها وتشربها لنفحاتها عبر محطات ومراحل وبرامج، إن هذا الاستعداد والتأهب الدائمين يسمحان بالترقي في مدارج الإيمان ومراقي الإحسان، صعدا نحو المعالي، وطلبا للرفعة والسمو، وبذلا للنفوس والغوالي.

تحتاج المسلمة في سلوكها إلى عنصر مهم وحاسم هو الصدق، والصدق خصلة ثالثة تنبني عليها أعمال المسلمة والمسلم. فأعمال الإنسان الطالب وجه الله رهينة بهذه الخصلة لأن مدار الأعمال عليها في واقع ترتج أطرافه ولا تثبت، وتضطرب سفنه ولا ترسو، ولا خلاص للمسلمة منه إلا بعقد العزم وتخليص النية وشد الرحال بقوة. يقول الله تعالى مخاطبا نبيه يحيى عليه السلام: يا يحيى خذ الكتاب بقوة .[1] ويقول مخاطبا المؤمنين: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين .[2] ويثمن قيمة الصدق والتصديق: والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون .[3] آيات تلح على وجوب الصدق وضرورة في كل الأعمال والأقوال والمساعي والنوايا.

وعكس الصدق الكذب والنفاق وهما محرمان شرعا ومجرمان قانونا وعرفا، وقد ورد في الحديث:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" .[4] وفي الحديث بهذا المعنى: "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار" .[5]

"والصدق خصلة إيمانية جامعة تناقض: النفاق بشعبه، وأهمها الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصام. وتناقض: البقاء على العادات والذهنيات والأنانيات الموروثة. وتناقض: البقاء على الإسلام الموروث عقيدة وعبادة وعلاقات. وتناقض: الرضى بالأوهام والخرافات المتفشية في الشعب المسكين المحروم المجهل. كما تناقض: الرضى بأنصاف الحلول في أهدافنا وفي مؤهلات جند الله. وتناقض: التجميع التكاثري دون اختيار العناصر واختبارها. وتناقض: الغموض في كفاءات الأفراد، ونواياهم، ومشاركتهم للجماعة في تصورها للعمل، ورضاهم بأسلوبها، ونظامها، وإمارتها، وخطها السياسي" . [6]

1 - معالم الصدق

من معالم الصدق صواب النية والمنطلق، فالمسلمة تنطلق من نية صادقة تقطع بها مع عهد الفتنة وماضي الغفلة، فتشمر ساعدها لخوض عباب بحر لجي يغشاه موج العقبات من فوقه موج الانتقادات، ومن ورائهما موج التشكيكات، فتحتمل بباعث الصدق كل ذلك بمعية الأخوات الصادقات. وقد حدد الحديث النبوي الشريف هذا المنطلق في قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .[7]

وجاء في قطوف

لو ترى قَلْبَ محِبٍّ ما به
لسوى الله ائتلافٌ وهَوَى
اغْتَنَى بالله في جلْوَتِه
فإذا غابَ عن الخلق اجْتَوَى
صحِّحِ القصْدَ إذا رمت العلا
مثلَه، إن لكل ما نوى
واصْدُقِ السَّيْرَ ولا تقْتَصَّ مَنْ
سار في النَّهْجِ مدىً ثم هَوَى[8]

ومن معالمه صدق الطلب والتوجه فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجد، ترعاها عين الرحمن وتكفلها رعاية المنان، ويحفها ستر الجليل العظيم، الذي من جاءه طارقا بابه فتح له وأجزل له العطايا والهبات، بغير حساب. "فبصدق الطلب نعرف المنافق من المخلص الصادق، ورسولنا علمنا أن " "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" . ومن جهة ثانية يتم للطالب الصادق صدق الإرادة في طاعة الله والإخلاص له ولولاية المؤمنين، ويتم له جمع الإرادة ويقظة الهمة ليمضي متضامناً متآزراً مع الجماعة المومنة. صدق الهمة والذمة معناهما صدق الإرادة القادرة على تغيير العادات وتغيير الأوضاع. [9]

ومن معالمه الاستخارة والوقوف بين يدي الله طلبا للعون والإرشاد، وطمعا في التوفيق والسداد، وتحصيلا لما يجود به المولى على العبد الراغب في الانخراط والانضمام إلى جسم الأمة الخاصة الداعية إلى الله على بصيرة وهدى، فيلتقي قدر الله مكتوب مع هذه الخطوة الحاسمة الراشدة إن قدر الله في كتابه المكنون أن تكون المسلمة من هذا الجسم المجاهد الكريم. يقول الإمام رحمه الله: "من علامات صدق طلبك أن تُديم الوقوف بباب الملك الوهاب، وأن تديم التوسل إليه والضراعة والاستغفار والاستخارة. ثم توكل عليه بعد أن يطمئن قلبك، ولا تلتفت إلى وراء. فإن حَسْبَك الله" .[10] ويقول أيضا : و"لدعاء الاستخارة مكانة خاصة، تفوض الأمة إلى ربها وتستنجد به بعد تدبير أمورها بحكمة العقل والشرع" .[11]

ومن معالمه لزومه كشرط من شروط التربية التي لا بد لكل عمل تربوي هادف ومنهاجي من مراعاتها حتى تؤتي التربية الإيمانية الإحسانية أكلها بإذن ربها. وهذا مدار قول الإمام المجدد رحمه الله: "المهمة المندوب إليها حزب الله مهمة شاقة، إنها مهمة بناء أمة، مهمة استثنائية، فنريد رجالا من نوع جيد، لهم استعداد جيد، ليصبحوا جنودا، ويكمن لهم غناء في ميادين الجهاد. أعني بكلمة صدق استعداد الوارد ليتحلى بشعب الإيمان، ويندمج في الجماعة ويكون له من قوة الإرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية" .[12] وقد أوصى الإمام مما أوصى به: "بالصّدق مع الصادقين صبرا ومصابرة وحَملا وتحملا. فما الكينونة الصابرة مع الصادقين بالأمر الهين. طاش ما عاش من زعم أنه صادق ثم عثَر أوّل ما برز أمامه نتوء من نتوءات العقبة. عقبات أمر الله عز وجل عباده الصالحين أن يقتحموها." "أوصي بما أوصى الله عز وجل به الإنسان من اقتحام العقبة. وإلا فالسهول الواطئة مرتَعٌ لغيرنا. كونوا ذوي همة يا إخواني ويا أخواتي" . [13]

2 - علاقة الصدق بباقي الخصال

إن الصدق مؤثر قلبي وروحي في نفس المسلمة، تظهر تأثيراته على باقي الخصال من صحبة وجماعة وذكر وبذل وعلم وعمل وسمت حسن وتؤدة واقتصاد وجهاد. هو المحرك لهذه الخصال في حياة المسلمة وموجه لها ومثبت لخطواتها وسعيها، فتنتقل بموجبه من خصلة إلى خصلة حتى تحصل على المجموع الطيب من شعب الإيمان يخول لها أن تكون حاضنة بعد أن كانت محضونة، وحاملة بعد أن كانت محمولة، مجاهدة بالمعنى المنهاجي، بعد أن كانت خاملة.

فالمسلمة تصدق صاحبة لأخواتها وتنصح وترفق وتلين وتحتمل وتواسي، وتصدق ذاكرة لله مجتمعة ومنفردة في كل أحوالها الظاهرة والباطنة، وتصدق باذلة للنفس والمال والجهد والوقت سخية طائعة متطوعة، وتصدق طالبة للعلم النافع المفيد الصدقة الجارية بفضل الله مجتهدة لرفع الجهل والأمية والتخلف والغفلة عن الأمة، وتصدق عاملة نشيطة مقبلة مشاركة في كل الميادين والمنتديات، وتصدق في سمتها وتؤدتها وقصدها وجهادها.

تصدق المسلمة في إيمانها بالله وبالغيب، وفي الشهادة والتوحيد وفي النية والإخلاص والنصيحة وأداء الأمانة والوفاء بالعهد، وتصدق في سلامة القلب والهجرة والنصرة وفي تصديق ما جاء من أمر الغيب في الرؤى الصالحة بكل عزم وشجاعة، وهذه من ركائز الإيمان. يقول الإمام رحمه الله: "ركائز الإيمان في خصلة الصدق عددتها في تصنيفي لشعب الإيمان إحدى عشرة ركيزة: الإيمان بالله عز وجل وبغيبه، وهي تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله التي ينطق بها لسان المسلم وينعقد عليها قلب المؤمن فتكون هي قوَّتَه، منها طعامه وشرابه. الإيمان بالغيب يتضمن الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والقدر خيره وشره. ثم ركيزة الإيمان باليوم الآخر، ثم النية والإخلاص، ثم الصدق، ثم النصيحة، ثم الأمانة والوفاء بالعهد، ثم سلامة القلب، ثم الهجرة إلى الله ورسوله، ثم نصرتهما، ثم الشجاعة، ثم تصديق الرؤيا الصالحة وهي عاجل بشرى المؤمن ووَحي الله المنامي لعباده الصالحين كرامةً من أجلِّ الكرامات" .[14]

ويلخص الإمام المجدد - رحمه الله - معنى الصدق وشعبه بقوله:" الصدق: عتبة للتصفية، وامتحان منه يدخل لميادين التدريب والاستعداد أصلح العناصر. الأمة عشعش فيها النفاق، فعند إعادة بناء المجتمع الإسلامي لا نكتفي بالاستماع إلى من يلهج بذكر اللّه ويحافظ رأي العين على الصلاة. الرحمة بما هي عطاء من اللّه عز وجل للعبد وعلاقة بينه وبينه لا مدخل لنا فيها. لكن نطلب من المرشح للجندية ونراقب في فئات المجتمع الإسلامي، في نشأته المتجددة، سِيمَا الصدق العملية، وبراهين الصدق المعبر عنها بالإنجاز لا بمجرد الكلام. فإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.شعب الخصلة : 25 الإيمان باللّه تعالى وبغيبه، 26 الإيمان باليوم الآخر، 27 النية والإخلاص، 28 الصدق، 29 النصيحة، 30 الأمانة والوفاء بالعهد، 31 سلامة القلب، 32 الهجرة، 33 النصرة، 34 الشجاعة، 35 تصديق الرؤيا الصالحة وتعبيرها" .[15]

[1] سورة مريم: 4.

[2] سورة التوبة: 119.

[3] سورة الزمر: 33.

[4] سنن الترمذي، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

[5] ابن حبان، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

[6] انظر المنهاج النبوي، ص:172.

[7] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[8] ياسين عبد السلام، ديوان قطوف، قطف 90، 2/ 19.

[9] ياسين عبد السلام، رسالة الإسلام أو الطوفان، ص: 138.

[10] ياسين عبد السلام، الإحسان، 1/ 221.

[11] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/ 377.

[12] ياسين عبد السلام، وصيتي، ص: 56.

[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 56.

[14] ياسين عبد السلام، الإحسان، 1/ 425.

[15] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 79 - 80.

تاريخ النشر : الأربعاء 18 ماي/أيار 2016