البذل بكل معانيه وطرقه وإيحاءاته عربون الصدق، ودليل التوجه إلى الله تعالى، ولذلك فهو جاء رديفا له في ترتيب الخصال العشر. فالبذل يعطي الشعور الروحي والنفسي بالعطاء والمشاركة والإحساس بالآخر. والقدرة على طلب العدل والمساهمة في تحقيقه، بما هو بذل للنفس والمال والجهد والوقت، كما يقدم لنا فكرة على إنجاز المهام والأعمال وإتقان المسؤوليات.
وقد ترتب عن البذل في عهد الرسول قيام الدعوة وتأسيسها وانتشارها، على المستويين الفردي والجماعي، وقدم الصحابة أمثلة خالدة في البذل المالي والبذل النفسي، والبذل في الوقت والجهد والمشاركة الفعالة في خدمة الإسلام. وكان للصحابيات بالموازاة مع شقائقهن الرجال هذا الدور الجليل في البذل كل من موقعها وحسب ظروفها، فلم تبخل الواحدة منهن بوقتها ولا بمالها ولا بجهدها كلما دعت الضرورة الشرعية إلى ذلك، وفي كل الأحيان والأوقات.
ويضع الإمام المجدد عبد السلام ياسين - رحمه الله - البذل في الخصلة الرابعة من الخصال العشر بعد الصدق تأكيدا على أهميته في الدعوة وتأثيره على مسار جماعة المسلمين. ويجعله مرادفا للمروءة وهي: "كما قال أهل اللغة هي كمال الرجولة. هي "البذل والعطاء وكَف الهمة عن الأسباب الدنيئة" [1] وإنه لمن الأكيد أن تكون للمال والجهد الفكري والبدني والحركي تلك الآثار الطيبة على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاملين بما تحمله رسالة الإسلام من دروس وعبر وخيرات وبركات.
1 - المسلمة تبذل المال
لعل من أهم العقبات وأشدها على الإنسان البخل بالمال وعدم إنفاقه، وإن تفاوت الناس في ذلك فحب المال مغروس في قلوبهم، والسخاء به مشروط، وجاء في قوله تعالى: وتحبون المال حبا جما [2] لذلك كانت دعوة الله تعالى المسلم للإنفاق صريحة في قوله سبحانه: وأتى المال على حبه [3] إرشادا إلى وجوب التخلص من هذا الشح، والتبرؤ من البخل.
ولأن المال عصب دعوة وعماد استمرارها فإن الإنفاق والتطوع بما يخدمه أساس من أسس المشاركة البناءة،يقول الإمام رحمه الله: "إن كنتَ مومنا مسلما فهات! هات حق الزكاة، وحقا غير الزكاة، وبرا واسعا تتطهر به ويتطهر المجتمع من أرجاس الشح والظلم والفقر والمرض والجهل" [4]
إن بذل المال يساهم في بناء مجتمع العمران الأخوي، عندما تمد المسلمة يد العون لأختها وأخيها وتعطي من مالها ما به يتأسس صرح الأخوة الخالد، فهي تمد يدها بما تجود به نفسها وقد بلغت تلك الدرجة التي لا تجعل للمال فيها حرمة في قلبها، بل تستهين به في سبيل نيل رضى الله تعالى، وهذا ما يؤكد عليه الإمام رحمه الله: "وفي كلمة "بذل" معنى ابتذال المِلك وامتهانه. وذلك دليل على أنه لم تبق للمال في القلب حرمة، وأن قيمته بدت تافهة منذ قارنه المومن بثواب الآخرة الباقي. فيرجع بنا الاعتبار إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، على هذا الإيمان مدار التحول للفرد والمجتمع. لا يمكن للمسلمين أن ينتظروا تغيير ما بهم حتى يغيروا بتجديد إيمانهم ما بأنفسهم من عقدة حب الدنيا والشح بها، وإيثارها على الآخرة دار البقاء" [5]
ويرتبط بذل المال بالتقلل مع الغنى واليسر، وهو عطاء يحدده إيثار النفس للغير في طيبة نفس: "التقلل غير الشح، هو خلق محمود، وتعبير عن الهمة العالية، همة العابرين لمنازل الدنيا يحدوهم الشوق إلى ما عند الله. التقلل عدل وبر واعتدال وعطاء من النفس بواسطة العطاء من النفقة. هو اقتصاد قوله تعالى: " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً [6] "هو نظام قوله تعالى:" كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [7] "ويدمِّر سبحانه وتعالى الفاسقين المترفين. " "التقلل إيثار للمحتاج بالفضل مما عندك، فإن لم يكن لك فضل فاعمل واتعب واكسب لتعود ببرك وإيثارك على من لا قدرة له على الكسب. حبُّ المساكين كان دعوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حب لا معنى له إن كان حبا عذريّا، لا معنى له إلا بالبذل من الفضل، لا معنى له إلا بالبر والمواساة" [8]
2 - المسلمة تبذل النفس
إذا كان بذل المال صعبا على النفوس، فإن بذل النفس أصعب، لغريزة حب الحياة المغروسة في النفوس وهي أقوى وأشد، فقد جاء في القرآن تقديم بذل النفس على المال، كما ورد في قوله الله تعالى: إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [9] قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة وعدًا عليه حقًّا. ويضيف: وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنـزلة: التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه...
ويميز الإمام - رحمه الله - بين مستويين من بذل النفس وكلاهما خير: الأول بذل النفس دفعة واحدة في ساحة القتال، وأعظم منه بذل النفس عبر عمر الإنسان، تحقيقا لمناط التكليف وهو عبودية الله تعالى والتقرب إليه وخدمة دينه والإحسان إلى خلقه، وما إلى ذلك من معاني البذل الجلى: "إن بذل النفس في ساحة القتال، دفعة واحدة، بِحال صدق في ساعة صدق، قربة يبلغ الله بها المجاهد في سبيله درجة الشهادة، وهي درجة عظيمة عند العظيم الكريم. أعظم منها درجة الصديقية التي تقتضي بذلا للنفس في عمر طويل. بذلها بتهذيبها، وصقلها، وكفها عن محارم الله، وزجرها عن حماه، وقمعها، وردعها، وتوبيخها في جنب الله، وحملها على طاعته، وخضوعها لجلاله، وخشوعها لهيبته، وتَضَعُّفها أمام قوته، وتواضعها لقدرته، ورضاها بقضائه وقدره، وصبرها على بلائه، وخوفها من بطشه، ورجائها في عفوه، وشوقها للقائه، ورقتها لخلقه، وذلتها على المؤمنين، وعزتها على الكافرين، وعدائها للشياطين وإخوان الشياطين" [10]
ويجعل الإمام من شروط العضوية في الجماعة بذل النفس: "فلا يدخلن في عضوية الجماعة ونظامها إلا القادرون على حمل هم الأمة، القادرون على بذل النفس والنفيس جهادا في سبيل الله، الأقوياء الأمناء على ذلك، مع شرط التقوى ومحبة الله ورسوله [11] " "والقرآن يعرض صورة المؤمن الكامل المنتمي إلى الأمة الخيِّرة: " إنما المومنون إخوة [12] صفات المومنين الروحية والخُلقية تبرهن على إيمانهم: صفة بذل النفس والمال، بانتفائها تنتفي شهادة المدعي: إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [13] لأن الفضائل العقلية والقلبية، والعبادة والبذل، والتقوى والإيثار كل ذلك ينبع من نية واحدة: ابتغاء مرضاة الله بإعانة كل إنسان. هذه الدمعة التي تسيل من قلب المومن حين يدعو ربه تُترجمها في واقع المجتمع خصلة البذل: إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المومنون حقا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [14] [15]
3 - المسلمة تبذل الوقت والجهد
وقت المسلمة ليس متسيبا، فهي تبذله في الطاعات وجلب المنفعات الدنيوية المؤدية إلى الصلاح الخاص والعام، وليس من الدين أن تضيع وقتها فيما لا ينفع وهو كثير في زماننا زمن الفتن الخفية والجلية. فلا تسرف في الوقت لهوا ولعبا، ولا تلتمس منه إلا ما كان عونا لها على الاستمرار فالقلوب مجاجة وجب تحميضوها كما ورد عند كثير من السلف الصالح، وتحميضها معناه الترفيه عنه والتسلية بالملح والطرائف والسماع.
كما تنفق المؤمنة من جهدها بذلا مناسبا لما ندبت إليه من مهام هي أولى بأدائها للنهوض بأمتها والرقي بمجتمعها نهوضا ورقيا سالمين من النزاعات والخلافات وردود الأفعال السلبية. فهي أقوى من أن تشدها إلى الحضيض حبال الشهوة، ومسامير الغفلة والخمول، في غير منٍّ منها لأن المنّ مما ينافي البذل وهو خلق رديء يقول الإمام رحمه الله: "ليس الفتى من هذه الإبل المائة التي لا تكاد تجد فيها راحلة. بل هو حامل ثقل الجماعة. ثم لا يُمنُّ على إخوته عطاءه فيفسد عمله. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [16] فمن كان يقدم لإخوته خدمات ثم يذكرها ما شمَّ من خصلة البذل رائحة. وقولك في معرض الحديث بدون حاجة: "فعلت لفلان كذا" مما يبطل الأعمال عند الله. روى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه. وسلم أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم (قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.) قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف"" . "المسبل إزاره هو الذي يطول ثوبه يستكبر على الناس، وهذا ليس من صفات المؤمن. ولا من صفته أن يعطي ويذكر عطاءه أمام الناس للفخر. ولا الذي يغش فيكذب ويحلف ليبيع سلعته" [17]
ومن أجل المهام التي تقوم بها المسلمة أنها تبذل وقتها ومالها وتفني عمرها في طاعة الله وإدراك ما طلبت بتحقيقه من عبادة وتعاون وعدل وإحسان وبر واحتمال للأذى ورفع للظلم وهذا ما يلخصه الإمام رحمه الله تعالى في قوله: الخصلة الرابعة: "البذل: في هذه المرحلة من تربية المؤمن وبناء المجتمع المتجدد، نترقب ذوبان الأنانيات. البذل عطاء وعدل وقسمة وإحسان. لا أقصد بذكر المراحل الترتيب الزمني. إنما هي اعتبارات لما نعهده من تقدم لقاء داع إلى اللّه عز وجل على التوبة والعبادة (الخصلة الأولى تليها الثانية)، وسبق التطهر الروحي على نبذ النفاق (الخصلتان الثانية والثالثة)، وتأخر التخلق ونبذ الشح والسماح بما في اليد على تغلغل الإيمان والصدق فيه. وهكذا. " "شعب الخصلة: 36 الزكاة والصدقة.37 الكرم والنفقة في سبيل اللّه. 38 إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين. 39 إطعام الطعام. 40 قسمة المال."
[1] ياسين عبد السلام، العدل، ص: 600.
[2] سورة الفجر: 20.
[3] سورة البقرة: 77.
[4] ياسين عبد السلام، العدل، ص: 218.
[5] ياسين عبد السلام، العدل، ص: 216.
[6] سورة الإسراء: 29.
[7] سورة الأعراف، الآية: 29.
[8] ياسين عبد السلام، الإحسان، 1/ 483.
[9] سورة التوبة: 111.
[10] ياسين عبد السلام، الإحسان، 1/ 485.
[11] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 44.
[12] سورة الحجرات: 10.
[13] سورة الحجرات: 15.
[14] سورة الأنفال: 2.
[15] ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص: 237 - 238.
[16] سورة البقرة: 264.
[17] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 197 - 198.
[18] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 80- 81.
تاريخ النشر : الأربعاء 25 ماي/أيار 2016